يواصل موقع “لكم” نشر قراءة تحليليلة على حلقات للكتاب الجديد للمفكر عبد الله العروي “استبانة”، الصادر حديثا في الدار البيضاء وبيروت. القراءة من إعداد  الدكتور عبد الرحيم خالص، وهو باحث في القانون العام ومُهتم بالفكر المغربي المعاصر. وفيما يلي الحلقة الثالثة (ما قبل الأخيرة): 

ثالثا: أوضاع المغرب بين الانحطاط والتجديد ومحاولات التنصير!

كيف يمكن للمغرب، اليوم، أن يرسخ مبادئ الوطنية ويزكي قيم المواطنة؟

قبل الاستقلال، كانت مسألة الوطنية، تنبع من شجاعة الرجال والنساء، شبابا وكهولا؛ فكانت تتمثل لهم في الحرص على عدم التبعية للآخر المتسلط، سواء كان مغربيا أو فرنسيا. لكن، اليوم، نجد العديد من الرجال والنساء، تهرب إلى الآخر، طمعا في وطن بلا وطنية. فهل سكان المغرب، اليوم، يفهمون ما معنى الوطنية؟

إننا لا ننتقص من قيمة المغاربة ولا من وطنيتهم، إذا نحن طرحنا مثل هذا السؤال الاستنكاري، ولكن نود اكتشاف ما وراء الحجاب؛ أي ما وراء العزائم التي نشجعها ولا نرى لها للأسف إرادة تُفَعَّل على أرض الواقع!

ولفهم السؤال حول الوطنية، نعود قليلا إلى الوراء، إلى عهد الاستعمار، وبالضبط إلى اللحظات الأولى لتفكير المغاربة باعتبارهم وطنيين في كيفية الاستقلال عن الحماية الفرنسية. وسيكون منطلقنا، من السؤال الآتي: ما معنى المطالبة بالاستقلال؟

أن تطالب بالاستقلال أو تشارك فيه أو ترغب فيه ومن كل جوارحك، وأن تكون دوما على استعداد للتضحية بروحك من أجله وفي سبيله، فذلك ما يسمى بالوطنية. وإذا أنت، مَن كنت، تحس بذلك إحساسا ورغبة وإرادة، فأنت وطني.

يقول العروي في نوع من الإجابة المقتضبة والواضحة: “كنا نملك شيئا فقدناه بسبب بؤس حظنا وكذلك بسبب تهاوننا وتخاذلنا، فيجب أن نعمل على استرداده” (ص 36). إن الاستقلال، هو ما فقده مغرب عهد الحماية، وله العمل على استرداده. فهل المغرب، استرد اليوم بالفعل استقلاله؟

إن من بين أسباب البؤس والانشطار الذي كان يعيشه المجتمع المغربي، في تلك الفترة، على المستوى الاجتماعي والفكري، كان سببه تفشي مجموعة من الظواهر الاجتماعية والثقافية التي ترجعنا إلى جاهلية القرون الوسطى. لقد كانت الشعوذة أكبر الظواهر التي يندى لها الجبين، إلى درجة، أصبح الأجانب الذين يزورون المغرب، وبجانبهم عدد كبير من الباحثين الذين يهتمون بالثقافة المغربية سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا، حسب العروي، يؤكدون بقولهم: “هذه ديانة المغاربة، هذه ثقافتهم، هذه نظرتهم إلى الإنسان وإلى الكون (…)” (ص 38).

من الطبيعي، في نظرنا، أن تسقط في الاستعمار، مثل هذه المجتمعات التي يكون مواطنوها متشبعين بالأفكار والظواهر والمعتقدات والتصورات اللا عقلانية. ومن هذه النقطة، تبتدئ بوادر الوطنية لمن يغارون على الوطن وثقافة أبناء الوطن. يقول العروي، “بالطبع كنا نحن نرى في هذه المعتقدات والتصورات جاهلية جديدة يجب محاربتها والتخلص منها نهائيا (…)” (ص 38)؛ لأنها وبكل بساطة تسجل انحطاطا كبيرا، يخجل له ومنه التاريخ.

فهل كان مجمل التراب المغربي، أنداك، يعرف نفس الانحطاط؟

عموما، نعم. لدى نفس الشعب وفي نفس البلاد، ما كانت نفس الثقافة لتخرج عن المألوف. الانحطاط، كان يتجلى في مستويات عدة، وإن بتمظهرات مختلفة؛ فكان يظهر للبعض في شكل تفسخ أخلاقي، ولدى البعض الآخر، يظهر في شكل خيانة للوطن؛ بينماـ لدى آخرين، غالبا ما يرونه تخلفا عن ركب الحضارة والتقدم المادي للعالم. ولذلك، كانت كل هذه المظاهر، تمثل نماذج انحطاط، تتمثل إما في التخلف أو التأخر أو التباطؤ (ص 40). ومهما كانت الأسماء فالحال بالنتيجة التي تؤدي في النهاية إلى انحطاط المجتمع والدولة، انحطاطا مفاهيميا، لا يُرى إلا عبر الزمن أو عبر ما أسماه العروي بالتاريخانية.

نقاش: تعقيب على “استبانة” العروي.. بين مغرب الحماية وحماية المغرب المعاصر

فما الحل إذن لتجاوز هذا الانحطاط؟ هل “التجديد” كعملية انفتاح على الآخر، في لباسه ونظام حياته اليومي وتصرفاته، هو الحل؟ أو ما كان يسمى في لحظة من لحظات الحماية الفرنسية بـ “التفرنج”؟

أ ليس هناك خوف لدى الشباب المغربي أنداك من التوجه إلى اعتناق غير ديانة الإسلام؟ أو بتعبير آخر: أن يولوا وجوههم ناحية “التنصير”؟

وكيف كان محيط العروي الأسري، ينظر إلى فعل “التجديد”؟

يقول العروي، بالنسبة لمحيطه ودائرته، فكرة التجديد مقبولة “وبدون أدنى تردد” (ص 41). إلا أنها لم تمس الآداب العامة والأخلاق والسلوك فحافظت عليهم بما يصون رموز التقاليد المغربية الوطنية؛ بل، ولم تمس حتى اللباس الذي كانت له دلالة رمزية كبيرة كتعبير عن الوطنية الحرة. ففي الوقت الذي كان البعض يروج لفكرة التفرنج كتشبه بالفرنسيين في اللباس وما جاوره من سلوكات تابعة، يؤكد العروي مدافعا عن اللباس التقليدي الوطني للمغاربة: “يجب أولا التذكير بتغيير مهم جرى بداية القرن العشرين وهو تعميم ارتداء الجلابة التي كانت مقصورة في السابق على أصحاب الدكاكين أي تجار المدن. عادت الجلابة لباس المغاربة بامتياز مع مميزات بين الجهات والمهن، وكذلك بين الجنسين (…).

لم يفارق أبي أبدا هذا اللباس (الرّزّة، الجلباب، البلغة) حتى وفاته سنة 1970.

(…)

على العموم للباس دلالة رمزية، لا شك في الأمر، والدلالة أوضح بالنسبة لبعض الطبقات الاجتماعية – المخزن، العلماء، الشرفاء، شيوخ الزوايا.

ثم كانت هناك حملة ضد التفرنج، أي التشبه بالنصارى، حملة كنا نحن الشباب ننظر إليها بريبة كبيرة، لأن إدارة الحماية كانت تدعمها (ص 45-46)”.

يلاحظ من المقطع المطول أعلاه بأن إدارة الحماية الفرنسية حاولت بالفعل طمس بعض مظاهر الوطنية المغربية التي كانت تبرز ولو ببساطتها عبر اللباس التقليدي المغربي، فحاولت مرارا، نشر “ثقافة” التفرنج. لكن السؤال لا يزال مطروحا بخصوص “التنصير”. هل من خطط واستراتيجيات فرنسية للدفع بالمغاربة إلى تغيير دينهم الإسلامي نحو الديانة المسيحية مثلا؟

حسب العروي، يؤكد بالنفي؛ أي انعدام خطط واستراتيجيات محكمة من طرف إدارة الحماية الفرنسية لتغيير ديانة المغاربة؛ وذلك، راجع في نظره، إلى كون فرنسا دولة لائكية. أما لو كانت الدولة الحامية مثلا، إسبانيا أو إنجلترا أو حتى ألمانيا، لربما كان العكس.

ولذلك، فإن الإشكال الكبير يتجاوز أحيانا العوامل الخارجية التي لم يكن تأثيرها كبيرا على تغيير نفوس المغاربة وسلوكاتهم؛ من قبيل التحول نحو ثقافة الآخرين من خلال عملية التفرنج أو اعتناق ديانة غير الإسلام من خلال عملية التنصير. بل، لقد كان المشكل الأكبر، يكمن في العوامل الداخلية وعلى رأسها مشكل الانحطاط الناتج عن تفشي ظواهر الشعوذة والتشبث بالتقاليد العتيقة المتفسخة، إلى درجة، كما يقول العروي، “كانت الشعوذة تبدو لنا شكلا من أشكال التنصير، والعكس صحيح أيضا” (ص 47). وفي هذا الإطار، ربما ينبغي إعادة توضيح مشكلة “الظهير البربري” الذي يدخل كما “يَزعُم” البعض في عملية “تنصير البربر” (ص 47-48)، أو أيضا عمليات محاولة احتواء الأعيان من خلال الدخول معهم في مفاوضات، فضلا عن تمكين أبنائهم من مدارس خاصة للتعلم (ص 50)؛ وفي ذلك، أكثر من دلالة، تخفي ورائها ما تخفيه الشجرة التي تستظل بها بقية أشجار الغابة! إنها عملية تنصير أكيد!!!

نقاش: تعقيب على “استبانة” العروي.. بين الأمس واليوم: أسئلة حول واقع التعليم بالمغرب

وبالرغم من ذلك، تظل عناصر الوطنية المغربية، تعلو على كل العناصر الأخرى. هذا ما تعلمه المغاربة الأحرار الذين بدأوا يرفضون التفرنج والتنصير وكل معالم الذوبان في ثقافة الآخر، الذي يشاركهم مظاهر الحياة اليومية، وهم بين ظهرانهم بشكل مستمر منذ سنة 1912؛ الأمر الذي ساهم في تغيير الأفكارفكارأ والعقليات حتى عند الأجنبي. هذا الأخير، الذي بدأ يفهم ويستوعب بدوره، “ضرورة وجدوى الفصل والتمييز، التساكن والتجاور بدون اختلاط أو تزاوج” بينهم وبين المغاربة (ص 52).

تلك، إذن، هي مختلف الإشكاليات التي يعاني منها العقل المغربي المعاصر، منذ الحماية وإلى اليوم، على مستوى الأفكار التي يؤمن بها والثقافة التي اكتسبها والدين الذي آمن به؛ مع العلم أن وعيه بكل هذه الإشكاليات، كانت تحكمه عمليات مد وجزر بين الحين والآخر. وفي هذا المقام، تجلت خصال الوطنية الحرة ومعالمها الكبرى في الدفاع عن الوطن، في الفكر والأفكار، في الثقافة والممارسة، في العمل والعبادة. فما كان من الوطنيين المغاربة الواعين بثقل المسؤولية، إلا الانضباط لخط التاريخ في تجاوز الانحطاط والتخلف والتأخر عن ركب الحضارة بعوالمها العالمية وبخصوصياتها المغربية، حتى وإن كان ذلك سينطلق من شكل اللباس وطريقة الكلام إلى صياغة الأفكار المناسبة من أجل صناعة المستقبل المنشود للمغرب المعاصر؛ مستقبل مغرب مستقل كل الاستقلال بدون أدنى انحطاط أو أيّ اختلال.

إن ما تَقَدّم، يُثير فينا عِدة تساؤلات؛ وأولها: ما الذي كان يُحَدِّد تاريخ المغرب والمغاربة، فيما قبل حقبة الحماية الفرنسية وأثنائها وبعدها، كشعب وجغرافية وثقافة؟